المادة    
يقول المصنف رحمه الله: [اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع]. إذا كان العبد كلما جاءه أمر من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قال: ما الحكمة في تحريم هذا الشيء؟! ولماذا كان ذلك الشيء حلالاً؟! وربما قال بعضهم: أريد أن أقتنع..! فإن هذا منافٍ للعبودية؛ لأن العبد عليه أن يؤمن ويسلم ويذعن لله سبحانه وتعالى؛ فإذا آمنا وسلمنا وأذعنا لله، ثم بعد ذلك سألنا أهل العلم واستفهمنا عن هذا الشيء على سبيل زيادة الإيمان وتقويته، وزيادة الاتباع والطاعة، والزيادة في العلم بحكم الدين وأسرار الشريعة.. فإذا كان القصد كذلك فلا بأس، لكن أن يكون السؤال عنها لكي يقتنع الإنسان ويسلم ويذعن؛ فهذا هو الذي لا يتفق مع مقتضى العبودية لله سبحانه وتعالى.
  1. العقلانيون والتسليم لأوامر الله

    يقول المصنف رحمه الله: "ولهذا لم يحك الله سبحانه وتعالى عن أمة نبي صدقت نبيها وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به"، ولو أن أي أمة من الأمم سألت نبيها عن الحكمة -سؤالاً اعتراضياً- لما كانت مؤمنة، فلو أن قائلاً قال: أريد أن أفهم لماذا كانت صلاة الفجر ركعتين والظهر أربعاً والمغرب ثلاثاً؟
    ولنفترض أننا أخبرناه بأن هناك حكمة، ثم سأل: لماذا نصوم رمضان؟ فأخبرناه بوجود علة... وهكذا على كل شيء يريد علة، فأين عبوديته لله؟! ليس هناك عبودية؛ لأن العبودية أن يستسلم الإنسان وينقاد ويذعن لأمر الله.
    ولو سأل سائل يؤمن بذلك ويقر ويذعن، وقال: اذكروا لي بعض ما يخفى علي من حِكَم صلاة الجماعة، فقلنا له: صلاة الجماعة فيها من الخير: اجتماع المسلمين، وتفقد أحوالهم، وتكثير سوادهم، والتعاون على البر والتقوى، وذكرنا له هذه الأمور، فإن هذا شيء حسن؛ لأنه يريد الاستعلام والإيضاح فأوضحنا له، أما الذي يسأل على سبيل الشك أو على سبيل الاعتراض فسؤاله هو الذي يتنافى مع مقام العبودية.
    يقول المصنف رحمه الله: "فلو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها"، وهذا -كما ذكرنا- موجود في من يقولون: نعرض ديننا على العقل، فإن قبله آمنا به! ولو أن الأعراب الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض عليهم الدين؛ قالوا له: نرجع إلى قومنا، فنعرض الأمر عليهم، فإن آمنوا آمنا، وإن لم يؤمنوا لم نؤمن، فلن يكون هؤلاء مؤمنين ولا مسلمين؛ فكذلك لو قال الإنسان: أنا مسلم، ولكن لا أومن بشيء حتى أعرضه على عقلي، فلو آمن به بعد ذلك، فإنما ذلك لأنه عرضه على عقله ووافقه، أما إذا لم يوافق عليه عقله فلن يؤمن..! فأين إيمانه إذن؟! هذا ليس بإيمان؛ بل هو مثل قول أولئك الأعراب الذين قالوا: نعرض الأمر على شيخ قبيلتنا، فإذا وافق قبلناه وإلا رددناه.
    وهذا داء عظيم تسرب إلى الأمة الإسلامية؛ ففي باب العقائد يقول من جاءته الأدلة على إثبات صفات الله: نعرضها على العقل وعلى القواعد والبراهين المنطقية والجدلية، وفي باب الأحكام كذلك يقول من أتاه الدليل الصحيح: أنتظر حتى أراجع المذهب وشيوخ المذهب؛ مع أنه قد جاءه الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يؤمن بالحديث، ولن يؤمن به إلا إذا وجد أنه معمول به في المذهب، وإن لم يجده قال: هذا إما ضعيف أو منسوخ؛ لأنه لا يمكن أن يخفى على علماء المذهب أو على إمام المذهب! فهذا شبيه بذاك -نسأل الله العفو والعافية- لأن أمرهما مبني على عدم التسليم والانقياد والإذعان، والله سبحانه وتعالى يقول: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا))[النساء:65] أي: تسليماً كاملاً، أما من قال: حتى أراجع أو أنظر، فهذا لم يسلم.. لكن يحق له المراجعة في حالة واحدة؛ وهي إذا أراد أن يتأكد من صحة الحديث، فهذا لا يدخل في هذا الباب، فإذا تبين أنه حكم الله أو حكم رسوله فلا اعتراض وهذا مقام الإيمان؛ فالتأكد حق وهو من الدين، ولا بد أن يعرف المسلم عمن يأخذ دينه.
    إن المصيبة أن الأمر أكبر من ذلك، وأكبر مما يظن؛ فالله تبارك وتعالى قد حرم الخمر والزنا واختلاط الرجال بالنساء، وإذا بقائل يقول: لا نقر تحريم الخمر أو الزنا أو الاختلاط حتى نعرض الأمر على مجلس البرلمان أو الأمة أو غيره... فهل هذا انقياد لحكم الله؟! وهل هذا مقتضى العبودية لله؟! يأمر الله وهم يقولون: لا نفعله حتى نراجع البرلمان والدساتير!
    ففي هذه الحالة تكون العبودية لهذه الأسماء وليست لله.. تعطي لها صفة الألوهية التي هي خالصة لله تعالى، وهذا هو عين ما فعلته الأمم قبلنا؛ من الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، ولهذا يقال: (مبنى العبودية على الاستسلام والانقياد والإذعان لأمر الله سبحانه وتعالى)، فلا تعترض عليه ولا تقول: لم؟! وكيف؟! على سبيل الرد.
  2. تمثل صفة الانقياد والتسليم في سلف الأمة

    يقول المصنف رحمه الله: [بل انقادت وسلمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفت، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته]، فإذا عرفنا شيئاً من حكمة الله، فالحمد لله، ونزداد إيماناً، وما لم نعرفه وخفي علينا، فلا نتوقف في العمل به حتى نعرف الحكمة، بل نعمل، وكذلك في أفعال الله سبحانه وتعالى، فليس لنا إلا الرضا والتسليم، فلا نعترض بأي حال من الأحوال، فإن الله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
    يقول: [ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك؛ كما في الإنجيل: يا بني إسرائيل! لا تقولوا: لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا؟]، وهذا من أخبار بني إسرائيل، وليس هو للاستشهاد أو الاعتماد، وإنما هو على سبيل الاستئناس، والأخبار المروية عن بني إسرائيل -مما هو حق في ديننا- تذكر وتنقل، لا للاعتماد والاحتجاج، لكن للاستئناس، كما يذكر المثل من كلام العرب، أو الحكمة من حكم الحكماء، أو القول من أقوال البلغاء.
    ثم قال المصنف: [ولهذا كان سلف هذه الأمة التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلوماً، لا تسأل نبيها: لم أمر الله بكذا؟]
    فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم لم يقولوا: لم حرم الله الخمر؟ بل عندما نادى المنادي: إن الله حرم الخمر، جرت بها الأزقة في المدينة .. فقد كانوا محققين لعبودية الله سبحانه وتعالى، وليس الحال كحال ضعاف الإيمان في آخر الزمان؛ إذا قيل له: حرم الله سبحانه وتعالى الاختلاط بين الرجال والنساء، قال: الواقع قد تبدل وتغير، ونحن نريد أن نوفق بين العصر وبين مطالب ديننا، ونوفق بين شريعتنا وبين التحضر.
    سبحان الله! هذا هو الذي أخبر الله سبحانه وتعالى به عن المنافقين أنهم: ((يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا))[النساء:62]، فإنهم قالوا: نريد أن نوفق بين حكم محمد صلى الله عليه وسلم وبين حكم كعب، أو حكم قاضي جهينة على الرواية الأخرى في سبب نزول قوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا))[النساء:60].
    فدعوى التوفيق والإحسان مهما كانت فهي من دعاوى المنافقين ولهذا لم يسأل الصحابة رضي الله تعالى عنهم النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً.
    يقول الشعبي رضي الله عنه ورحمه: [[لو أن القرآن أنزل على هؤلاء -يعني الناس في عصره- لكان عامته: (ويسألونك)]]، مع العلم أن الشعبي من التابعين، أي: لو كان هؤلاء الناس في عصر التنزيل لكان عامة ما في القرآن من الآيات (ويسألونك)؛ لكثرة أسئلتهم.
    وإن الناظر في كتاب الله عز وجل يجد بضعة من المواضع جاء فيها (يسألونك)، وبعضها للصحابة، وبعضها للكفار، فعلينا أن ننظر كيف كان أدب الصحابة وأدب المؤمنين مع ربهم ومع نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأنهم لا يعترضون.. بل لا يناقشون ولا يبحثون؛ إنما يذعنون ويسلمون تسليماً مطلقاً، من غير ممانعة ولا معارضة ولا مدافعة ولا منازعة.
    وقد قال المصنف رحمه الله: "ولهذا كان سلف هذه الأمة، التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلوماً"، فالجملة الاعتراضية هنا "التي هي أكمل الأمم..." لها حكمة، وذلك أن الذين يردون الدين يجنحون للتعلل بالعقل وبالعلم وبالمعرفة وبالفكر وبالتأمل، ولم يوجد -ولن يوجد- في أي جيل من الأجيال أكمل من الصحابة عقولاً ومعارف وعلوماً، ومع ذلك كان موقفهم الاستسلام والانقياد والإذعان، ولم يقولوا: لم أمر الله بكذا؟ ولماذا نهى عن كذا؟ ولم قدر كذا؟ ولم فعل كذا؟.. يقول المصنف: "لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم"، فمن كلمة (الإسلام) نعرف معنى الدين وما حقيقته، فكلمة (الإسلام) تعنى: الاستسلام والانقياد والخضوع لله سبحانه وتعالى من غير اعتراض؛ فمن أبى واعترض، فهذا غير مسلم، وإن زعم ذلك.